تجربتي مع زولوفت: ما الذي يمكن أن يفعله مضاد الاكتئاب بالإنسان؟

تـــمـــهـــــيـــــــــــد:

بدأت رحلتي مع هذا الدواء قبل ثمانية أشهر، وبين ذلك الوقت وحتى اللحظة التي أكتب فيها هذا المقال أصبحت مختلفًا عمّا كنت عليه، وعرفت ماذا يعني أن يتناول المرء مضاد اكتئاب، سأتحدث في هذا المقال عن تجربتي علمًا أنني ما زلت أتناول الدواء حتى الآن، وفي الحقيقة لا أملك أي خطة واضحة فيما يتعلق بمستقبلي مع هذا الدواء.

هدفي من هذا المقال أن أنقل للقارئ هذه التجربة التي قد تعطي فهمًا أكثر لهذه الأدوية وتأثيرها على الإنسان وحياته اليومية ورؤيته العامّة نحو الحياة اثناء تناوله، لأنني أنا شخصيًا لم أتوقع يومًا أنني سأكون من بين الملايين الذي يحتاجون لتناول هذه الأدوية ليعيشوا حياةً طبيعية، فحسب موقع Our World In Data في احصائيات من عام 2021، تتربع أيسلندا على قمة الدول التي يستهلك مواطنوها مضاد الاكتئاب بنسبة بلغت 161 لكل 1000 نسمة، تليها البرتغال بنسبة 139 لكل 1000 نسمة، ثم كندا وأستراليا والسويد والمملكة المتحدة، رغم كون هذه الدولة متقدمة ومتطور تتمتع بمعايير معيشية عالية واقتصادات قوية ودخول عالية، إلّا أن المسألة أعمق من ذلك، وما زلت مصرًا على رأي الذي عبرت عنه في الكثير من المقالات والنصوص، أن الاكتئاب ليس مرض، بل هو عارِض لمرض أكبر يدعى العالم.

 لدعم الكاتب عبر Cliq:
Rashedkh7

بالنسبة للوطن العربي، لم أعثر على احصائيات واضحة حول تناول مضادات الاكتئاب، وهذا أمرٌ بديهي ولا داعي للتفسير، فما زالت النظرة تجاه هذه الأدوية تشوبها الشكوك والحيرة وكذلك الخجل من الذات أو الآخرين، لكن في السنوات الأخيرة خصوصًا بعد الجائحة بات هناك تقبل وانفتاح اكثر على اللجوء لمضادات الاكتئاب، وبات التعامل مع المشاكل النفسية بغض النظر عن حِدّتها يؤخذ بجدية أكبر، لا أعرف إذا كان بالإمكان اعتبار هذا التطور تقدمًا، لكن هذا يقودني إلى استنتاجٍ واحد: ضنك الحياة جعلنا نضطر لكسر قيود الخجل والعار، خصوصًا لدى الأجيال الشابة التي باتت تناقش مضادات الاكتئاب في المقاهي والجلسات بكل أريحية.

لن أسهب بالحديث عن الأسباب التي تدفع هذه الشعوب لتناول الأدوية لأن الكثير منها بديهي والآخر يحتاج إلى مقالات أخرى ربما سأعمل عليها لاحقًا.

222222231323424

بالنسبة لمضاد الاكتئاب الذي أتناوله، يسمى عليمًا بـ Sertralineوتجاريًا لهم الكثير من الأسماء أشهرها Zoloft وينتمي الدواء لعائلة مثبطات استرداد السيروتونين الانتقائية والتي تسمى بــSelective serotonin reuptake inhibitors (SSRIs) حيث تعمل على زيادة نسبة السيروتونين في الجهاز العصبي مما يحسن المزاج، ويستخدم في علاج الوسواس القهري والقلق الاجتماعي ونوبات الاكتئاب واضطراب ما بعد الصدمة PTSD.

أريد أن أنوه على أنني لا أشجع أحد على تناول هذه الأدوية دون استشارة طبية وتشخيص رسمي من خلال هذا المقال، وما سأذكره تاليًا هو نتاج تجربة شخصية مرتبطة بظروفي المعيشية والبيئة التي أنا فيها، بالتالي تناول هذا الدواء من قبل شخصٍ آخر لا يعني أنه سيصل إلى نفس النتائج التي وصلت إليها أنا، لقد تناولت الدواء بناء على [تشخيص ذاتي] -والتشخيص الذاتي لا يؤخذ به من قبل المعالجين والاخصائيين- وتناولت الدواء بقرارٍ ذاتي مدركًا النتائج التي ستترتب عليه متحملًا المسؤولية مهما كانت، هذا المقال ليس محاولة لتشخيص الآخرين، أو تقديم أي مشورة طبية أو دوائية، أقتضى التنويه.

______________________

مـــا الخـــطــــب؟

لم أخطو نحو عيادة معالج أو طبيب نفسي قط، وبقي تعاملي مع القلق والاكتئاب الذي رافقاني منذ نهاية مراهقتي وحتى وقتٍ قريب يقتصر على تفريغ هذه المشاعر بالنصوص والنثر، والقراءة والتدخين وغيرها من الأمور، تزامن هذا مع دخولي الجامعة واكتشافي لمكتبة الجامعة الهائلة وقراءتي لبعض كتب الفلسفة ونقد الأديان وحينها كانت هناك موجة إلحاد قوية جاءت بعد الربيع العربي جعلت الشباب العربي يعاني من أزمة الهوية والشعور بالانهزام والعار والرغبة الجامحة بالتعرّي من كل ما هو عربي إسلامي ليس نتيجة لقرارات منطقية أو قراءات مستفيضة، بل فقط كردة فعل على نتائج الربيع العربي وخيبة الأمل الكبيرة التي سيطرت علينا جميعًا، وليس هذا فحسب؛ ارتفاع معدلات البطالة والتضخم والمشاكل الاقتصادية وضعف التعليم وغياب القدوات وغيرها، هذا عدى المشاكل الشخصية في حياة هؤلاء الشبّان -وأنا منهم- كل هذه العوامل جعلت الاكتئاب والقلق موجودان دائمًا، ويظهران بأشكال وأوقاتٍ مختلفة، فتارةً أشعر أنني في تمام عافيتي وتارةً أخرى أشعر أن الحياة لا تساوى بعوضة تحوم حول جثة كائنٍ ما، هذا التأرجح ما بين الفرح البريء والحزن السوداوي جعلني أعيش تحت رحمة مزاجي الذي كان يسيطر على كل شيء في حياتي ويفسد الكثير من اللحظات الجميلة، وبالطبع أن التبدّل المفاجئ بالمزاج يصاحبه حالة من الترقب، فبدأت بمراقبة نفسي ومن حولي بصورة مستمرة، باحثًا عما يثير انقلاب المزاج هذا، لكن هذه المراقبة لم تنجح بل زادت الأمر سوءًا، فحالة الترقب هذه ينجم عنها القلق، والقلق يجعل المرء ينطوي على نفسه منعزلًا، وهذه العزلة تؤدي إلى الاكتئاب، وهكذا يجد الإنسان نفسه عالقًا في دائرة محكمة لا يمكن الإفلات منها.

 

فترة الجامعة كانت مليئة بالمغامرات، الخروج من بيئة المدرسة المغلقة [والمدرسة بالمناسبة، بالنسبة لي ليست سوى انعكاسًا للسجن، وفي أحسن حالتها تهدف المدرسة إلى تكوين أفراد يجيدون القيام بمهام ميكانيكية لا تحتاج إلى أي تفكيرٍ ناقد أو نباهة] تعرض أغلبنا للكثير من الإساءة في المدرسة والخروج منها نحو الجامعة حيث لا عصا ترعبنا ولا معلم يوبخنا، ولا واجبات مدرسية تفسد أوقات فراغنا، الجامعة حيث الجنس الآخر والحياة الأكاديمية والتنافس العلمي، والنشاطات الاجتماعية والسياسية، هذه العوامل حست حالتي النفسية كثيرًا بلا شك، والبيئة الجامعة فرصة ممتازة ليصقل المرء شخصيته، لكن في المقابل هناك الكثير من التبعات التي قد لا تظهر بشكلٍ مباشرة، مثل المشاكل بين الأصدقاء في الجامعة، صعوبة المواد، والشعور بعدم الانتماء والنبذ، الجامعة عالمٌ مفتوح والبقاء وحيدًا فيها يخلف شعورًا بالوحشة والذي كما أسلفت سابقًا سيقود إلى نفسه الحلقة المغلقة إياها.

 

كنت أمضِ وقتًا طويلًا في الجامعة، أحيانًا حتى الساعة التاسعة مساءً، لم اكن أريد العودة للبيت، في البداية ظننت أن المشكلة في البيت نفسه لكن لا، الأمر يتعلق بما نحمله في دواخلنا، نحن نحمل تعاستنا أينما ذهبنا، كان مكوثي في الجامعة لكل هذا الوقت تهربًا من أفكاري، فأحرص على أعود إلى المنزل متعبًا لأغفو سريعًا وبذلك اتجنب ساعات طويلة من التفكير الزائد والهواجس التي تفسد المزاج.

في الجامعة بالطبع، قابلت الكثير من الأشخاص الذي تناولوا أو كانوا يتناولون مضادات الاكتئاب حينها، كان المناخ مناسبًا لنقاشاتٍ كهذه، سماعي لتجاربهم قادني إلى استنتاجٍ واحد: العلاج النفسي ليس حلًا، بل على العكس؛ قد يساهم في تعقيد المشكلة أكثر، والأدوية لا تختلف كثيرًا عن المخدرات، الاختلاف يكمن في [قوننتها] فحسب، فدواءٌ وبجرةِ قلم يمكن أن يتحول من مخدر يحذروننا منه إلى دواء فعّال يصرفه الأطباء، والعكس صحيح، وقد شاهدت ما الذي تفعله أدوية مثل Prozac وSarafem وCelexa وغيرها بهم: إنها تفصلهم عن العالم، تضعهم في فقاعة من اللامبالاة، نعم تقضي على الأعراض، لكنها تجعلهم خارج السياق، روبوتات من لحمٍ ودم، وبالطبع ترافق هذا مع فكرة تبنيتها واقنعت نفسي بها نتيجة لقراءة الفلسفة العدمية حينها: علينا أن نحب الألم! لذلك تحول تعاملي مع الاكتئاب والقلق من حالة شد وجذب إلى حالة جذبٍ فحسب، أصبحت أبحث عن الجماليات في المعاناة، وأتعامل مع الاكتئاب على أنه قدري الأول والأخير، وأن على المرء أن يتحلى بالكبرياء تجاه الألم، وهذه الأفكار كانت وقودًا فعّالًا لكتابة، فتحسنت حالتي وشعرت بأنني احول معاناتي إلى ابداع.

 

وبالفعل، لم أتناول أي دواء ولم أخط نحو مكتب المعالج النفسي الذي كان يقدم العلاج مجانًا لنا ضمن التأمين الصِحّي المتاح للطلاب، بالإضافة لكوني متوجس من فكرة هذه الأدوية وخوفي من أن تعرف عائلتي بالأمر واتعرض حينها لتحقيق مطول منهم، وبقيت على هذه الحال لمدةٍ طويلة بعد تخرجي…

اقرأ أيضًا: الانتحار والعدمية: قراءة في “حلم رجل مضحك” لدوستويفسكي

التخرج من الجامعة، البطالة، الجائحة والتململ المستمر

مرحلة جديدة، شاب تخرج للتو من الجامعة بمعدل جيد، لكنه لا يملك عنصرًا هامًا يجعله قادرًا على خوض المرحلة التالية: الحيوية. شخصيًا، أرى الاكتئاب افتقادًا للحيوية، أكثر من كونه اعتلالًا في المزاج وحالة من الحزن العام، يعني هذا بالطبع جزءٌ من الاكتئاب لكنه ليس الصورة الكاملة، المكتئب ليس مشلولًا، فهو يعمل ويدرس ويخرج مع الأصدقاء، ويطلق النِكات ويمارس الرياضة أحيانًا، لكن في ظل غياب الحيوية تصبح هذه الأمور [سيزيفية الطابع] أي مثل سيزيف الذي عليه أن يجر صخرته يوميًا إلى أعلى الجبل، جر هذه الصخرة بلا حيوية أو دوافع يجعلها واجبًا صعبًا، سيزف هو نحن، صخرته واجباتنا، والجبل هو حياتنا اليومية.

 

بعد التخرج، عملت مجانًا [تحت مُسمّى “تدريب”] لمدة عامٍ تقريبًا في مكتب تسويق صغير، لا أنكر أن خلال هذا العام قد تعلمت الكثير، لكن هذا العامل كان بلا مرتب ولا رؤية واضحة، خصوصًا أنني قد بلغت الخامسة والعشرون حينها، وبت أرى أبناء جيلي ينطلقون نحو الاستقرار بكل سلاسة، كنت أمض ساعاتٍ طويلة لوحدي في المكتب، سأعترف أنني عملت قليلًا، وكتبت كثيرًا، وكنت حينها شخصًا عصابيًا Neurotic لا أملك صبرًا على شيء، غاضب طوال الوقت، مستاء من لا شيء، كنت أخفي ذلك ببراعة، لكن وراء هذا القناع كان هناك بركان لا يستقر، بركان أسميته المزاج…

ما زاد الأمر سوءًا، هو اللامبالاة التي صاحبتني حينها، لم يمكن المستقبل بالنسبة لي أكثر من ثقبٍ أسود مجهول، ولا أنكر أنني كنت أجد في الموت نوعًا من الجمال وهذه محاولة لتجميل فكرة أن الموت هو الخلاص وأنه المسألة مسألة قرار، وبالتالي كلما واجهت مشكلةً ما أو مررت بظروفٍ معينة كنت أضع أقنعة تخفي حقيقة هذه الظروف، وتراكمت الأقنعة أكثر وأكثر إلى مرحلة لم أعد أعرف فيها من أنا أو ما أنا عليه.

ثم جاء عام 2020، وجاءت الجائحة معه، جلسنا جميعًا في بيوتنا، وتحقق كل ما كنت أخشاه: حالة الطوارئ التي تؤدي إلى إجراءات استثنائية من قبل الحكومات، والإجراءات الاستثنائية سوف تستمر طالما استمرت حالة الطوارئ، وهكذا كنا نعيش تحت رحمة هذا البندول، وجدت نفسي أغرق أكثر وأكثر في أفكاري، لتتحول هذه الأفكار إلى قلق ثم نوبات ذعر؛ ذاك عام أصبت بنوبات الذعر لأول مرة، وعلمت حينها أن واجته من مشاكل نفسية شيء وما أواجه الآن شيءٌ من مستوى آخر تمامًا، نوبات الذعر تجعل المرء مشلولًا، يسيطر عليه هاجسٌ واحد: الخوف من الموت، أمضيت أغلب وقتي في سريري ما بين النوم واليقظة، مع غثيان لا يقاوم، وفزع وجودي جعلني أتمنى أن اختفى وأصبح نسيًا منسية، ألّا أكون، حينها انهارت أناي Ego Death ووجدت نفسي تلقائيًا الجئ إلى حل بديهي: الإيمان. علمت حينها أن الإنسان ضعيف مهما بلغ من مبالغ، وأن حاجتنا إلى إله يحيط بنا وسط هذا المجهول أمرٌ ضروري، بل حتمي ومتأصل في كل واحدٍ مِنّا، رميت كبريائي وسمحت لنفسي بأن استنجد بالله وبالفعل تلاشى الذعر شيئًا فشيئًا، وبقي مكانه خوفٌ ضئيل من هجمات نوبات الذعر…

أقرأ أيضًا: الإنسان الحديث والضجيج في الخلفية – مدينة عمّان نموذجًا

هناك الكثير من الأعراض الدقيقة، التي لا تظهر مباشرةً ونعتبرها أمورًا لا علاقة لها ما نواجه، شخصيًا كنت أشعر برغبة بتحريك يداي طوال الوقت، وحاجة مستمرة وملحة بتغيير الوضعية التي أجلس فيها، لم أجد الراحة في أي وضعية جلوس، كنت عديم الصبر كثير التذمر غير قادر على تبني أي عادة مفيدة، واستمر حالي هكذا عامي 2021 و2022، وكان للبطالة دورٌ كبير في تراجع حالتي النفسية…

 

حبوب صفراء داكنة

في 2022 وحتى آواخر ذاك العام، بدأت أشعر بنوعٍ من الانفصال عن الذات، وكأنني أرى العالم من خلف لوحٍ زجاجيٍ سميك، أنظر إلى المرآة ولا أشعر أن من أراه هو أنا، وكأنني أسير في هذا العالم وحولي حاجز زجاجي يجعلني متفرجًا فحسب ثم لاحقًا عرفت أن هذه أعراض Depersonalization/Derealization أو DP/DR وحينها علمت أني علي أن أفعل شيئًا ما، خصوصًا مع اقترابي من سن الثلاثين، واهداري للكثير من الوقت مما جعلني متأخرًا عن اقراني، قررت حينها اللجوء إلى ذلك الحل الذي لطالما بغضته ونصحت الآخرين بالتروي قبل اللجوء إليه: مضاد الاكتئاب.

ومن خلال Reddit وقراءتي لعشرات التجارب بالإضافة إلى مشاركة تجاربي، ومحاولة وصل النقاط وبالعودة إلى يومياتي التي أدين لها بالكثير في فهم حالي وذاتي، وأيضًا النصوص التي كتبتها، حللتها بأثرٍ رجعي Retrospective استطعت حينها أن أصل إلى فهمًا أكثر لنفسي، لكنني لم أملك ثمن جلسات العلاج النفسي [وكوني مرتابًا في العلاج النفسي بصورة عاملة بالمناسبة، وهذه مسألة أخرى قد أتحدث عنها لاحقًا] قررت أن ابدأ بتناول Sertraline المعروف تجاريًا باسم Zoloft.

 

The pills I have been taking confuse me

أتذكر أول حبة تناولتها، كان يوم جمعة في شهر ديسمبر عام 2022، تحتاج المضادات من عائلة SSRI حوالي أسبوعين ليظهر مفعولها، لكن بالنسبة لي 50 ملغ كانت كافية لتعيد إلي حيوية افتقدتها لسنوات، لم أتوقع أن أشعر بمفعول الدواء مباشرةً! وبعد شهر من تناوله بدأت الأمور تتغير تدريجيًا…

وها أنا ذا بعد ثمان أشهر من تناول زولوف، لم أعد بالتململ، ولا الرغبة بتحريك يداي طوال الوقت أو تغيير وضعيات جلوسي ونومي كل حين، لما يعد هناك بث إذاعي مستمر في رأسي، لم يعد هناك تسارع في نبضات القلب عندما استيقظ صباحًا، لم تعد المسائل التي كانت تؤجج نار القلق تؤثر علي، بل على العكس بات لدي برودة لذيذة تسمح لي بالتصرف بعفوية، تصادف تناولي للدواء على عثوري على وظيفة في مجال خدمة العملاء، وظيفة مليئة بالتوتر والإرهاق الذهني، لكن بصورة ما وجدت نفسي منغمسًا في عملي هذا، ووجدت نفسي أعود إلى صوابي: قادر على اتباع روتين، لدي حيوية تسمحي لي بالحركة والاعتناء بواجباتي، بل أصبحت محبًا للتنظيف وبدأت امارس نشاطات امتنعت عنها طويلًا.

بإمكاني أن أقول أن تجربتي مع الدواء ناجحة، مع الأخذ بالاعتبار أنني تناولته بنفسي، وشخصت نفسي بنفسي، لم استشر معالج ولا طبيب، وعرضت نفسي لخطر الأعراض الجانبية والمضاعفات، من الصعب التنبؤ بأثر مضادات الاكتئاب، لو افترضنا أن هناك توأم تناول كل منهما نفس الدواء ولديهما نفس الأعراض، لن تكون النتيجة متماثلة بالضرورة، وهنا تكمن خطورة مضادات الاكتئاب، أنت تجازف وتعرض نفسك لخطرٍ مجهول مما قد يؤثر على مسؤولياتك.

لكن بالطبع بعد 4 أشهر تقريبًا، بعدما أن بلغ السيروتونين ذروته، بدأ مفعول الدواء بالتراجع، وعادت التململ، وعادت التفكير الزائد والقلق، وازداد الأمر عندما بدأت بالعمل في وظيفتي الجديدة، في شهري الأول الذي كان مخصصًا لتدريبنا على العمل، كنت أعود إلى المنزل مجهدًا وأحاول اقتناص القليل من النوم، لكن نومي كان مضطربًا، لم أكن نائمًا بالأحرى، بل كنت اسمع ما يشبه البث الإذاعي المشوش في أذني، وأحلم بالوظيفة وكأنني في المكتب تمامًا، حينها شعرت بخيبة أمل لأنني اعتقدت أن حيويتي لن تختفي مجددًا، فكنت أمام خيارين: الإقلاع عن مضاد الاكتئاب والعودة إلى الطرق الكلاسيكية في واجهة ما اعانيه، أو زيادة الجرعة من 50 ملغ إلى 100 ملغ.

Hollow أجوف
سرعان ما يحولنا مضاد الاكتئاب إلى كائنات جوفاء

رفعت الجرعة إلى 100 ملغ، وبالفعل عادت الحيوية، وفي اثناء كتابتي لهذا المقال أنا تحت تأثير زولوف، لكن حتى الـ100 ملغ بلغت ذروتها، وأصبحت مجوفًا Hollow، وكأنني على وضعية الطيار الآلي Autopilot وعقلي يعمل فقط عندما أكون في العمل وحينما أعود إلى المنزل أمسك هاتفي دون أي احساسٍ بما حولي، مشاعري تخدرت والحساسية التي كانت تساعدني في كتابة النثر والأفكار الملتهبة التي كانت تهبط علي لكتابة النصوص كلها اختفت، لم اعد قادرًا على الكتابة بعفوية وتلقائية، لم اعد استطيع كتابة يومياتي، لقد سَلَب مني زولوف حساسية مهمة، حساسية يصاحبها القلق لكنها أيضًا تمدني بالأبداع، إن الإنسان بحاجة إلى جرعة بسيطة من الألم أو القلق، بل أنني أعتبر القلق معلم صارم لكنه ما يزول حتى نشعر بطهارة كبيرة، وحيوية لا توصف.

حاليًا أواجه صعوبة في الكتابة، وممارسة الرياضة، وكذلك القدرة على تحليل الأمور والأفكار أثناء جلوسي لوحدي مثلًا، وكذلك أجد نفسي غير قادر على المضي مطولًا في المحادثات، النشاطات الوحيدة التي اجد نفسي منغمسًا فيها هي ألعاب الفيديو بين حينٍ وآخر، والعمل، ذلك لأنها نشاطات تقنية تجمع ما بين حركة اليدين وعقل، أما القراءة فهي شحيحة، نادرة، عانيت حتى انهيت روايةً واحدة، وزولوف ضاعف الشعور بالملل أكثر من ذي قبل، والملل من المشاعر المؤلمة والتي تدفع المرء للقيام بأمورٍ متهورة أو تدمير ذاته في سبيل الوصول إلى جرعة من الحيوية، كذلك افتقد الأدرينالين الذي يبث في داخلي الحماس الجسدي والذهني، من الممكن القول أنني أصبحت روبوتًا مثل بقية الروبوتات التي تحدث عنها في بداية المقال…

هذه هي رحلتي مع زولوف حتى الآن، لا أعرف كيف سيكون الأمر في المستقبل، هل سأعود إلى جرعة 50 ملغم؟ أم سأرفع الجرعة الحالية من 100 إلى 150 ملغم؟ لا يمكن التنبؤ بمضادات الاكتئاب، ومن ينو تناولها فعليه أن يفكر جيدًا قبل القيام بذلك وأن يخضع لتشخيصٍ دقيق وأن يختار الدواء الذي تناسب مع حالته، بالنسبة المجازفة التي قمت بها ليس عملًا صائبًا، ولست أدافع عنها بالطبع، لكنها مجازفة قمت بها ونجحت، بصورةٍ ما.

عالمنا بصورته الحالية، يفرض ضغطًا كبيرًا على الجهاز العصبي، خصوصًا لدى سكان المدن الكبرى، تناول مضادات الاكتئاب الآن بات ملازمًا لتناول أدوية الأمراض المزمن مثل الضغط والسكري وغيرها، هذا عدى معدلات الانتحار، مضاد الاكتئاب ليست سحرًا، وفي ظل هذا التطبيع -غير الموجه بدقة- نحو تقبل العلاج النفسي والمشاكل النفسية في المجتمعات أصبح هناك مبالغة في التشخيص Overdiagnosis خصوصًا على شبكات التهافت الاجتماعي كما يحلو لي تسميتها، بات الجميع يعاني من الاكتئاب الآن والقلق والتوحد وغيرها، وبات وبصورةٍ واضحة أن البعض من ضعاف النفوس يدعون أنهم مصابون بهذه الأمراض، ويحاول إظهارها وكأنها سِمة تميزهم عن الآخرين، وهذا نتيجة شعور الإنسان الحديث بالدونية حيث بدلًا من يقارن نفسه بمن يشبهونه من حوله، بات عليه أن يقارن نفسه مع الملايين، وبالتالي نرى الآن أشكالًا معقدة من السلوكيات لا اعتقد أن علم النفس قادر على اللحاق بها.

لا ننسى كذلك الـ Big Pharma والجانب التسويقي من الصحة النفسية، حيث يتم صرف مضادات الاكتئاب وكأنها أدوية للصداع، والكثير من هذه الأدوية يخلق اعتمادية Dependency فلا يعود المرء قادر على التخلي عنها، وتمسح إحساسه بذاته كما حدث معي.

ختامًا، أن هذه التجربة التي ذكرتها هنا قد يمر بها الآن شخصٌ من عائلاتنا أو أصدقائنا أو معارفنا، وتناول مضادات الاكتئاب ليس رفاهية ولا نوع من التفرّد في الشخصية، بل هو إشارة على أننا نعيش في أزمة روحية ونفسية في المقام، قبل أن تكون أزمة اقتصادية او اجتماعية.

 

3 thoughts on “تجربتي مع زولوفت: ما الذي يمكن أن يفعله مضاد الاكتئاب بالإنسان؟

  1. الموضوع جدا جميل وطريقة سردك ملفته واتفق معك وبشده ع الجزء الاخير.

    Like

Leave a comment